خلق الإحسان

إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله.
أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ,قال تعالى:( يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُم بِمَا تَعْمَلُونَ) الممتحنة 18.
فاتقوا الله يرحمكم الله, وأخلصوا لربكم القصد والنيّة, فإنما الأعمال بالنيّات, واجتهدوا في الطاعة, فقد أفلح من جدّ في الطاعات, والزموا الصدق في المعاملة فإن دين الله في المعاملات.
بادروا يرحمكم الله إلى ما يحبه مولاكم ويرضاه, فكلّ امرِئ موقوف على ما اقترفه وجناه{يوم ينظر المرء ما قدمت يداه},( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا. وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوَ اَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداَم بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفُم بِالْعِبَادِ) آل عمران 30.
أيها المسلمون: موضوعنا حول كلمة عظيمة, تتضمن معاني واسعة, تدور حول صلاح الإنسان وفلاحه في دنياه وآخرته, وحول نفسه وأهله ومجتمعه. كلمة تدخل في الدين والعبادة, والقول والعمل, والخلق والمظهر والسلوك. كلمة عظيمة لها مدارها في التعامل والتعايش, ولها آثارها في رأب الصدع, وتضميد الجراح, وزرع الألفة والمودّة والصفاء والوئام, وتدفع إلى التسامي صعدا في مكارم الأخلاق. هذه الكلمة العظيمة هي: الإحسان.
معاشر الإخوة: الإحسان مشتقّ من الحسن, وهو نهاية الإخلاص, والإخلاص على أكمل وجوهه من الإتقان والإحكام والجمال في الظاهر والباطن.
يقول بعض العلماء: الإحسان هو لبّ الإيمان, وروح الإسلام وكمال الدين, ولو جمعنا فضائل الأعمال كلَّها من صلاة وذكر وصيام لدخلت تحت الإحسان, الإحسان في العبادة, الإحسان في المعاملة, الإحسان في الواجبات الإسلامية, هذا كلُّه يشمله الإحسان.
عباد الله إنّ الإحسان خُلق عظيم, ومقام كريم, وهو سجيّة في النّفس تحملها على مُجازاة الخُلق بجوائز الخير فضلا ومحبة, يقول سبحانه :(إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىا وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ) النحل 90.
العدل يعني أن يأخذ الإنسان ما لَه ويعطي ما عليه, أما الإحسان فهو زيادة في البِرّ فوق العدل بأن يأخذ أقلَّ مما له ويقدمَ أكثر مما عليه, وقد جعل الله تعالى جزاء المحسنين من جنس عملهم, فوعدهم بأن يحسن إليهم, فلا يعاملُهم بعدله بل بفضله ومنِّه و كرمه, قال تعالى:{هل جزاء الاحسان إلا الاحسان}.
والإحسان سبب لمحبة الله تعالى, قال عزّ وجلّ: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}, وإذا أحبّ الله تعالى عبدا قرّبه وأدناه وأعطاه, ويقول تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ اُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)يونس 26. فيا ربّ اَدخلنا الجنّة برحمتك, وجُد علينا من فضلك وكرمك ورضوانك يا محسنُ يا منّان.
عباد الله للإحسان مراتب: أعلاها الإحسان مع الله تعالى, ويكون بفعل ما أمر به, وترك ما نهى عنه, مع لزوم مراقبة الله تعالى في السّرّ والعلن، وفي القول والعمل, كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان، فقال:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك." فإذا خلا الإنسان بنفسه ودَعَته لمعصية الله تعالى, تذكّر أن الله مطّلع عليه, فأعرض عن ذلك وأقلع, قال تعالى:  )اِنَّ الذِينَ اتَّقَوِا اِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) الأعراف 201.
إذن أيّها المومنون, إنّه لحريٌّ بنا من الآيات السابقة أن نحمد الله عزّ وجلّ ونحسن إلى خالقنا و بارئنا وذلك بتوحيده، يقول تبارك وتعالى: فاعلمَ اَنَّه لآإله إلاّ الله. وكذلك بالرّضا بقدر الله, فنُظهرَ الرّضا والقَبول سواءٌ في المنع والعطاء. فعجبا لأمر المؤمن, وأمره كلّه خير, إن أصابته سرّاءُ شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرا له.
عباد الله, ما عوّدَنا ربُّنا إلاّ إحسانا, وما أسدى إلينا إلّا جودا ومِننا.
أيّها الإخوة الأكارم: ثاني مراتبِ الإحسان، تحقيقُ شهادة أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم رسولُ الله, وذلك في صِدق محبّته ولُزوم طاعته, وحُسن اتباعه وعدم مجاوزة شرعه. يقول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: ( قُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)آل عمران 31.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم,وبسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم,أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم,فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا لأحسن الأعمال والأقوال والأخلاق، نشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، العليم الخلاق، ونشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بعثَه ربه بمكارم الأخلاق، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم التلاق.
عباد الله, بعد حقّ الله في توحيده وعبادته, وحقّ رسوله سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم في الطّاعة والمتابعة, يأتي ثالث المراتب, وهي الإحسان إلى عباد الله, ويأتي في المقدمة الوالدان. يقول تبارك وتعالى:(وَقَضَىا رَبـُّكَ أَلاَّ تَعْـبُدُوا إِلآَّ إِيـَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا اِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَـقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) الإسراء 23.
إنّ لعلماء البلاغة وقفة رائعةٌ عند الباء, وبالوالدين إحسانا, هذه الباء تُسمّى باء الإلصاق, يعني ينبغي أن يكون الإحسان إلى والديك من قبلك بالذّات, أي عليك أن تقوم أنت بخدمتِهما لا أن تكلِّف إنسانا ليقوم مقامَك. عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد, أبتغي الأجر من الله, قال فهل من والديك أحدٌ حيّ؟ قال نعم, بل كلاهما حيّ, قال فتبغي الأجر من الله؟قال نعم, قال فارجع إلى والديك فأحسن صُحبَتهما.أخرجه مسلم.
أخي المسلم, من الإحسان أن يكون نظرُك إلى أبيك وأمّك مؤدّبا, كلامك مع أبيك وأمّك فيه رفق وخضوع وتأدُّب. لو أنّ في اللغة كلمةً أقلُّ من "أُفٍّ" لقالها الله عزّ وجلّ: فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما.
بعد الوالدين, يأتي الإحسان إلى الأزواج, حيث من حقِّ المرأة على زوجها, الإحسان المادّي إليها في شأن الطّعام والكَسوة والمسكن وكذلك إحسان المعاملة. يقول تبارك وتعالى: "وعاشِروهنّ بالمعروف",
فسّر بعض العلماء هذه الآية: أنّ المعاشرة بالمعروف لا تعني أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها, بل تعني أن تحتمل الأذى منها.
أيها الإخوة الأكارم, أزواج النبيّ عليه الصلاة والسلام كُنّ يسكُنّ معه حول المسجد, ومنطقة المدينة المنوّرة صحراويّة كما نعلم, فلمّا تزوّج ماريا القبطيّة, وهي من مصر بلد النّيل, بلد النّبات الأخضر حول النيل، هيّأ لها النّبي صلى الله عليه وسلم مسكنا في أجمل واحات المدينة حيث الخُضرة والماء, مراعاةً لبيئتها التي كانت عليها, فهذا المثال من أسمى معاني الإحسان إلى الأزواج.
عباد الله, إنّ من أسمى الأخلاق: نسيان ما أسديت من المعروف والإحسان إلى النّاس. وهذه مرتبة عالية ومنزلة رفيعة, وهي أن تنسى ما يصدر منك من إحسان ومعروف حتّى كأنّه لم يصدُر. فمن أراد أن يرتقِيَ في المكارم فلينس ما قدّم من إحسان ومعروف حتى يسلَم من المَنَّة والتّرفّع على النّاس، ولأجل أن يتأهّل لنيل مكارمَ أُخرى أرفعَ وأرفع.
معاشر المسلمين, ذو الإحسان ينطلق في ميادين الإصلاح الواسعة يبذل ما في وُسعه, ينشر الخير والفضل والبِرّ في كلِّ ما يحيط به أو يمرّ عليه، فالمحسن عنصر صالح ومسلم مستقيم مع نفسه ومع الآخرين, لا يصدر عنه إلاّ ما يحِبُّه لنفسه ويرضاه للآخرين, وفي مسلكه تزداد الحياة استقامة والمحبّة عُمقا, وتسود الثّقة وتنتشر الطّمأنينة وتكون السعادة الشّاملة.
فالإحسان إذاً هو معيارُ قياس نجاح العلاقات, وثباتِها ودوامِها, وإذا كان العدل أساس الحكم وقيام الدّول, فإنّ الإحسانَ هو سبيل رقيِّها ورِفعتها وتقدّمِها: "إنّ الله يامرُ بالعدل و الاحسان".
ومن أجل هذا عباد الله كان جزاء الإحسان عظيما, وكلّما كان الإيمان أكملَ والعملُ أحسنَ كان الجزاء أوفى والثّوابُ أعظم. يقول تبارك وتعالى: "لهم مايشاءون عند ربّهم ذلك جزاء المحسنين. " ويقول في آية أخرى"آخذين ما آتاهم ربّهم إنّهم كانوا قبل ذلك محسنين", والله سبحانه وتعالى يَجزي المحسن في الدنيا قبل الآخرة, حيث يقول عزّ وجلّ: "لِّلذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ, جَنَّاتُ عَدْنٍ يـَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَـحْتِهَا الاَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَالِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ" النحل 30-31.
فاللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار, ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب. اللهمّ اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما, واجعل تفرُّقنا من بعده تفرُّقا معصوماً, ولا تدع فينا ولا معنا شقيّا ولا محروماَ. اللهمّ إنّا نسألك الهُدى والتّقى والعفاف والغنى. اللهمّ إنّا نسألك أن ترزق كُلاًّ منّا لسانا صادقا ذاكرا, وقلبا خاشعا منيبا, وعملا صالحا زاكيا, وعلما نافعا رافعا, وإيمانا راسخا ثابتا, ويقينا صادقا خالصا, ورزقا حلالا طيّبا واسعا, يا ذا الجلال والاكرام.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين, ووحّد اللهمّ صفوفهم, واجمع كلمتهم على الحقّ, واكسر شوكة الظالمين, واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.
اللهمّ اسقنا من فيضك المدرار واجعلنا من الذّاكرين لك في الليل والنّهار, المستغفرين لك بالعشيّ والاسحار. اللهمّ أنزل علينا من بركات السّماء وأخرج لنا من خيرات الأرض, وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكلِّ أرزاقنا يا ذا الجلال والاكرام.
ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات, إنّك سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلّ اللهمّ وسلم وبارك على سيّدنا محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين, سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *